قصة قصيرة ..الفتاة التي وجدت الحكمة في مكتب البريد

في صباح يوم الاثنين، تحت أشعة الشمس القاسية وبين وجوه الناس المتجهمة.
اتجهت ضحى إلى أحد مكاتب البريد المتطرفة بإحدى ضواحي الجيزة. بعد أن طلبت إذناً من عملها الذي لا تستطيع أن تطلب منه عطلة لأنها حديثة عهد بهذه الوظيفة الخزعبلية.


تلك الوظائف التي تحرم فيها العُطلات وَيَشِحّ بها تلك الحقوق المعنوية المسلم بها.


لعلك الآن فكرت ماذا تعمل ضحى وبنسبة كبيرة لقد أصبت. نعم تعمل ضحى بمجال المبيعات، الذي يحرم فيه الموظف من أقل حقوقه الطبيعية أخذ قسطاً من الهدوء للتعافي من آثار الضغط النفسي.


عندما طلبت ضحى إذنا حرصت مديرتها على أن تجعل ضحى تعود إلى العمل باكراً.
فقررت أن تهاتف موظفا بمكتب البريد لتساعد موظفتها على إتمام عملها سريعاً والعودة إلى العمل دون تأخير.

في مكتب البريد

ضحى في الطريق إلى نفسها


بعد أن تناوبت ضحى على وسائل المواصلات. تسلمها حافلة إلى أخرى. وصلت أخيراً لمكتب البريد، وعندما سألت عن أستاذ عادل، عرف أنها قريبة تلك المديرة المألوفة لذاك المكتب.


استقبل عادل ضُحى وفي غضون ثواني فقط طلب لها مشروباً بارداً. تعجبت ضُحى من تلك المُعاملة.
كما زاد من توترها نظرات الناس إليها وإلى هذا الاستثناء الذي حصلت عليه. ففي حين تجلس ضحى على مقعد تنتظر ثوانٍ لبدء معاملتها، كان يتراص الناس بجانب الطريق تحت أشعة الشمس الملتهبة.


جلست ضُحى على أحد مقاعد الانتظار وبجانبها المشروب البارد، وأخذت تنظر للناسِ من حولها.
فإذا بكبار السن الذين يتلفحون بثياب رثة وقلوبٍ طيبة بسيطة تنعكس تلك البساطة المغلفة بالرضا على وجوههم، أو ربما ذاك الذي حسبته رضا ما هو إلا خضوع لحال يفوق قدرتهم ولا يمنحهم حتى رفاهية الرضا.


استرقت ضحى النظر فإذا بعجوز رسم الزمان على تجاعيد وجهها عصورٍ من العدم. وسطر على جبيناها العوز.
في السبعين من عمرها مجبرة على أن تجلس على المقعد المقابل لنافذة موظفي البريد تنتظر إتمام معاملتها، التي هي في الغالب الحصول على معاشٍ زهيد يتمثل في بِضع مئات من الجنيهات.


في المقعد المقابل كانت ضُحى تتأمل وجوه الناس في ألمٍ. تدرك كم أن الحياة أصبحت شديدة الصعوبة على الموظفين الذي يتقاضون دخلاً متمسكاً بثابتة في مقابل غلاء مُضاعف للمعيشة.


فما بالك لمن لا عمل له وتجاوز سنه سن العمل. نعم تدرك أن الله لن يتركهم. ولكن هل أصبح أمرهم فقط بيد السماء؟!!
لم تكن وجوه الناس المكتظة بالهموم فقط ما يشغل بال ضحى بل شعورها بعدم استحقاق هذا الاستثناء.

سهام مسومة


شعرت ضحى بأن نظرات الناس لها كالسهام المسومة، في الوقت التي كانت نفسها ترمقها بنظرة أكثر حدة وقسوة من نظرات الناس.
بالفعل تعلم أنها تعدت على مكان يستحقه غيرها.


وبينما هي غارقة في التوتر والتفكير تضغط بيد على الأخرى كعادتها عندما تشعر بالقلق. اقتطع صمتها صوت موظف البريد من خلف النافذة يطلب تواجدها لإتمام بعض الإجراءات.


بعد أن أتمت الإجراءات. وفي غضون دقائق فقط تسلمت بطاقة الائتمان التي قد سبق وأبلغتها صديقتها أن الأمر يحتاج إلى خمسة عشر يوماً.
لم تعرف ضحى هل تفرح بذاك الإنجاز، أم تحزن لأنها أتمته عن طريق وساطة غير مشروعة.


وأخذت تفكر حين طلب منها موظف آخر الانتظار لتفعيل البطاقة. كيف سيكون شعوري إذا تبدلت الأماكن وأخذ دوري أحد لمجرد معرفته بأحد موظفي المكان.
أخذ الموظف ينظر لعيني ضحى وكأنه يعلق منشوراً يذكرها أنه قدم لها خدمة لن يقدمها لها أحداً آخر بهذه الجودة.
أما ضحى فكانت كلما نظر إليها كلما زادتها نظراته توتراً وارتباكاً. وابتلعتها التساؤلات لماذا ينظر إليَّ هكذا، هل يريد مني مالاً، ويلك يا ضحى هل ستعطينه مالاً؟

ولو ألقى معاذيره


يا ليتني لم آت إلى هنا ولم أجر هذه المعاملة. ويحك يا ضحى أنتِ على وشك أن تعطي للموظف رشوة.
هل هذه أنتِ حقاً؟
كيف تغيرت هكذا؟. وبدأت الأصوات بداخل ضحى تتبادل الاتهامات. أحدهم يلومها والأخر يتعاطف معها.


يقول أحدهم: لا عليكِ ماذا عليكِ أن تفعلي. ليس لديك أي عطلات، هل تطردين من عملك. أو ربما بذلك تتعرضين للجزاء بسبب قائمة العملاء المتراصين أمام المكتب؟
فيرد الأخر: وما ذنب الآخرين… لماذا يدفعون عنك الثمن؟


أنت الذي تحملين كتاب الله بين أضلعك وتكرهين الوساطة والاعتداء على حقوق الغير بغير حق.
أكانت تلك اَلشِّعَارَات التي كنتِ تتزينين بها أمام الناس؟


شعرت ضحى أن الأرض تدور أسفل قدميها. وأن قلبها يبكي. وسرت بجسدها قشعريرة وكأنها بين الموت والحياة.
كأن مَلَكَيْنِ هبطا الآن ليحاسباها، أحست أنها تجردت من ثياب الحكمة والنزاهة وواجهت نفسها لأول مرة.


غريبة تظهر بملامح شاحبة في مرآة قديمة عليها غبرة.
لم يكف الموظف عن النظر لها، ولم تتوقف هي عن التوتر. أخذها بعضٌ من الدفاع الباهت عن موقفها.


فأخذ عقلها يردد: لا عليكِ هذا أمرٌ يحدث كل يوم. هل تفقدين وظيفتك أوتتعرضين للجزاء لأنك تريدين إتمام عملٍ ما.
هل من العدل أن يكون إجراء بسيط كهذا مدته خمسة عشر يوماً. وعندما يكون لكِ وساطة ينجز بنصف ساعة؟


كانت الأفكار تتصارع برأس ضحى كرياحٍ خماسينية تضرب أمواج البحر فيرتطمان الاثنين برأسها.
وقفزت ضحى من ذاك المقعد بعد أن أنهت ما صبت إليه. تجلد ذاتها على ما قضت. ولم تتبق لها سوى فرصة وحيدة للنجاة من عذاب ضميرها.


أقسمت ضحى بأن لا تعطي رشوة ودعت الله أن لا تقع في تلك الحيرة الثانية.
أخذت تردد لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..

الحكمة

منذ ذلك اليوم عرفت ضحى أن الإنسان ما هو إلا مزيج من الخير والشر. لا مجال لمثاليته، ولا مكان للكمال فيه،.

على الإنسان أن يراقب نفسه في كل أموره ليعلم نقاط ضعفه. وأن يحاسب نفسه أول بأول ولا يرتضي أن يكون سبباً في ظلم غيره.

عندما يعترف الإنسان هكذا بنقصه وعدم كماله. سيقترب أكثر من الحل.


وباتت تسكن عقلها تلك الآية التي لطالما أبكتها. (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)  .


شاركنا من وجهة نظرك ما الحلول التي لم تأت لرأس ضحى؟ وماذا كنت ستفعل إذا كنت في ذلك الموقف، ليس في مكتب البريد فحسب بل في مكان قد يواجهك فيه هذا التحدي ؟

المقالات المقترحة للقراءة

قانون “لا منبهات بعد العصر” وقانون “لا هاتف بعد المغرب” ومالقصة خلف ذلك؟

كيف تبدأ في ما تودّ إنجازه أيًا كان؟ وما سرّ شروعي في الكتابة وتأسيس مجتمع رديف؟

أضف تعليق